السبت، 27 يونيو 2009

ثقافات وهيمنات تحديات ومواجهات وعرب



عبد الله بن محمد الشهيل
كاتب متخصص في التاريخ الحديث والمعاصر









لعله من المعلوم: أن الثقافة كمفهوم عام مجرد فكر وسلوك وأنساق اجتماعية وفعل وجهد بموجبها تتشكل أنماط حياة التجمعات البشرية منذ فجر التاريخ حتى يومنا كبر أي منها أو صغر, متطور أو نام, أو متخلف وهذا معناه: استحالة إحصاء الثقافات عبر هذه المدة على خلاف إمكانية قياس قدرة كل ثقافة ومدى انتشارها ونوعية تأثيرها وكمية إيجابياتها وسلبياتها التي تبدو: مرهونة بزمنيتها ومكانيتها وتاريخية وعي كل تجمع وبيئته الطبيعية وموقعه الجغرافي المختلف حولها من أن تكون أساسية أم أولوية أقوى منها ما أفرزته المتغيرات أو يكمل بعضها بعضا وبحسبها: تتحدد مكانة التجمع إن بسيطة مكوناته البشرية بتجانسها وتوحدها على رابطة الدم وأواصر القربى, والعصبية وتمتاز بالتكافل, وتفاني الفرد بالجماعة, أو مركبة بتنوعها الأثني, والديني والمذهبي, والثقافي, ولكن رغم محاسن التكافل سيبقى التجمع أو المجتمع على بساطته لا يقوى على الاستجابة للمتغير, ويلغي الحافز الفردي بتذويبه بجماعة محكومة بمفاهيم, وأساليب مزاجية, وتسيطر عليها عاطفة القرابة, وعصبية تنزع من التفكير تبعاتها الخطيرة.
لا شك أن زمان ومكان التجمع, وخلفيته الثقافية: عوامل مهمة ولكنها إن لم تتعمق بالنسبة للمجتمعات المركبة بالاستقرار والأمن, وتتماسك مكوناته الأثنية, والدينية والمذهبية بالتماثل الجامع, والاختلاف المانع بظل نظام مؤسسي يطلق الحريات, ويصون الحقوق, ويقدم الإنسان: فكرا وجسدا, وتربية وتعليما, وإشباعا لحاجاته, وتبنيا لإبداعه, واحتضان الموهوبين, ومكافأة المتفوقين, ودعم العلماء والباحثين, إن لم يعتبر الإنسان في مجتمع ما: الثروة التي لا تنضب, والتجارة التي لا تكسد, ورأس المال الذي يبقى ولا يزول خاصة أن الله كرمه, وأوكل إليه عمارة الأرض لأنه الذي يبدع ويخترع ويفكر ويعمل, ويزرع ويحصد, ويصنع ويعالج, وينتج ويبني, ويحرس بالأمن الأوطار, ويدفع عنها العدوان, إن لم يضع المجتمع في اعتباره ذلك سيكون: عرضة للجهل والبغضاء, والصراع والجوع والمرض.
الثقافات محصلة: رسالات سماوية, ولمعات إيمانية, وتأملات مدققة بعمق, وقوة ملاحظة بحركة الكون, وإيقاع الحياة ورؤى استشرافية منطلقة من متابعة, وجمع معلومات وتحليلها, وفكر إصلاحي وإبداع وتأثر, وقيم وطموح, وجهود وأفعال, وعزائم ومثابرة, والفروقات بينها: جوهرية وشكلية, وفي مداها وانكماشها, وتدخلاتها وتفاعلاتها, وقوتها وضعفها متفاوتة, والمتفرقة منها: على الغنائم تتنافس, وطالما من أجلها تحاربت, وعلى اقتسامها توافقت, وبعد أن جمعتها المصالح عداواتها التاريخية تناست, وقد غبرت ثقافات كانت مزدهرة نتيجة طول إهمالها وأخرى تراجعت إن لعدم الإهتمام الكافي بها, أو لتوحشها بالفوقية والاحتلال, والظلم والابتزاز, والطبقية والاحتقار, أو اعتلت بالأدلجة الرافضة للاختلاف والتعدد, والمعتمدة على الآحادية والحدية, وثقافات إما تابعة بمحاكاة الآخر الأرقى دون تمييز بين الصالح والطالح, فتأخذ منه بالبراق المغري والمريح السهل, فيأكل مجتمع هذه حاله مما يصدًره الأرقى ويستعمل ما يصنعه, حيث يستسلم له بالدعه, والتقاليد المذل وإما مهمش بالانغلاق والنأي, أو التشدد والخوف من التغيير أو متخدر بالفكر الخرافي والغيبيات, وتصديق الدجالين, ورعاة التضليل وإما لم تكن منافسة فتطورت تطورا نوعيا بالمداومة على تفعيلها تراكميا بالإبداع والإضافات, والبحث والتجريب, أو واعدة تأسست بنية رفعها إلى متطورة.
الثقافة الواعدة يتطلع مؤسسوها إلى الوصول للتطور, وسيصلون إليه إذا وضعوا خطة مدروسة يقدمون فيها الإنسان الذي يبدأ يناؤه متكاملا بالتعليم بجميع مراحله من منظور وطني مثبت للذات وأهم عنصر بالتعليم: اللغة القومية, أو الوطنية الغالبة بالبلد دون نفي غيرها من لغات الأقاليم, والحرص على تعليم اللغات الأجنبية لأهميتها في عمليات التفاعل والتعامل, والتأثر والتأثير وللتعرف على مسلك الآخر, وطريقة تفكيره, وفهمه الفهم الذي يدعوه راضيا, أو مجبرا إلى حسب حساب أي بلد يطلب التطور, والنظرة إليه نظرة إعجاب, إلا أن الأهم: اللغة الأم, لا لكونها تؤسس الثقة, وتبعث الاعتزاز, وترفض الاحترام, بل لأنها تتحرر التفكير من التبعية, وتجنب الأجيال من الوقوع بفخ التقليد اللاواعي, وتحرسهم من الشعور بالدونية والغربة, وأكثر من ذلك: لا تتبلور نهضة وتصعد أمة وتصان حضارة, ويلمع فكر, وتشيع بالإبداع الجماليات وتستقبل المستحدثات الوافدة بعيون فاحصة,وتتجدد العطاءات بغير اللغة الأم.
إن التعليم منطلق التنوير, وأبو النهضات, وتقديم الإنسان فيه واللغة المفروض: أن يتبعها تعميقه بالحداثة, والتقنية, ومختلف التخصصات والتركيز على الثقافة العلمية والجانب المهني منه, حتى يتحقق توطين التنمية, وتحديث الصناعات, والمنتجات الزراعية, والوعي بقيمة الدراسات المستقبلية لتنشيط المنجز, والاستعداد للمنتظر, وبالتعليم المتكامل: يستمر العطاء, ويتصاعد النمو, وتصد المخاطر, وتعم التوعية بالمسؤوليات والواجبات وبالتالي: معرفة سبل التطور التي تقتضي: الاستفادة من التجارب السابقة, واستجلاب الخبرات الفاعلة والإصرار على النجاح بعدم تمكين الإحباط, واستيعاب المستجدات ومراعاة تعزيز الذات والمحافظة المرنة على الخوصيات, وإحياء المناسب من المخزون العلمي والفكري.
الأمة التي تطلب لثقافتها تطورا نوعيا حتى تؤهل نفسها لتطوير العصري, ومواجهة التحديات الصعبة بحاجة لسعة أفق, وخصوبة خيال ورصد ودراسة,وتبصر بالمتغيرات, وتصور للطموح على أن تتسق فاعلة بمختلف مفاصل حياتها لكي يتعمق تلاحمها بتجنب العنصرية وإعدام الخسران بالتميز وتتغلب بعدئذ بالعلم والفكر والبحث والتجريب والقدرات والمواهب والمهارات على ما يعترضها من عقبات وعلى الخلافات بقبول التنوع والتعدد والاختلاف وبالروية والحوار: تذوب الانقسامات, وتتقوى الشوفنيات والعصبيات, وبالتسامح والرحابة والحس الإنساني, والقوة المحكومة بالقيم والقوانين والمصبوبة بقالب يستوعب كل المكونات بحسب نسبة كل منها: ثقافة وحقوقا حيث تتأمن باكتمال هذه المعطيات غالبية احتياجاتها, ولا تمكن منها الخلل إلا بالقدر الذي لا يؤثر باستقرارها وتطورها نظرا لأن المطلقات مستحيلة بالحياة.
وهنا يبدو أنه نشأت إشكالية بشأن تطور أو تفوق دولة أو أمة ما, الأمر الذي يستوجب طرح السؤال التالي.
هي ستغتر بالتفوق فتقرن به الفوقية بحيث تسعى إلى الهيمنة بالتدخل في شؤون البلدان والدول التي لا تستطيع المواجهة أو ترى فيها مطمعا, أو لا تسير بركابها فتفرض شروطها: وتنظر إليها بدونية أن لم تشن عليها الحروب وتحتلها وتظلم شعوبها, وتبتزها, وتستنزف خيراتها وتزرع الفقر, وتشق الصفوف؟
يندر أن تتفوق أمة أو دولة دون أن تتطلع لطلب المزيد الذي قد لا تجده إلا خارج حدودها بالجوار أولا إتباعا لنظرية (المجال الحيوي) التي أخذت بها الولايات المتحدة التي بعدما تكاملت إمكاناتها: الثقافية, والمادية والعسكرية حصرت اهتمامها بأمريكا اللاتينية التزاما بمبدأ الرئيس (مونرو) حرصا على عدم التورط بمشكلات العالم القديم الكثيرة والمعقدة والمتشعبة, ولتجنب الصدام بقوى كبرى قد تكبدها خسائر فادحة, ولعل هذا ما دعا (الكونجرس) إلى رفض طلب الرئيس ولسون الانضمام لعصبة الأمم رغم أن ميثاقها صيغ معظمه من المبادئ التي أعلنها أثناء انعقاد مؤتمر السلام عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى ب (قرساي) قرب باريس, وطوال سنين هذه الحرب كانت الولايات المتحدة تمد الحلفاء بالمال والعتاد والسلاح, وصارت طرفا فيها بآخر سنة ولعلها بدخولها رجحت الكفة, كذلك كان ألمانيا الهتلرية التي وجدت بالجغرافيا مجالها الحيوي مدفوعة بقوتها المتنامية, والحماس الجماهيري الذي نجحت الدعاية النازية بتصعيده إلى فوقية عرقية تصدرها ليس فقط إلى الثأر لهزيمتها, واسترداد الكرامة, وما أقتطع من الوطن بل إلى بسط السيادة على العالم مستفيدة بذلك من الفكر الصهيوني في البروتوكولات, والقوة الخفية وبناء عليه رأى هتلر: تصنيف الأمم بحسب قربها للآرية وأن مبعث السيطرة على العالم: الجوار متذرعا بالجغرافيا والألمان الذين يطالبون بانضمامهم للوطن الأم, والشعوب التي تدعوها قرابتها الثقافية والأثنية إلى تخليصها من سلطة حكومات انفصالية واستفزازات ومواقف دول جوارها يهدد أمن ألمانيا ومصالحها بتحالفها مع قوى ودول معادية.
وكثيرا ما يغري تزايد التفوق الدول بمزيد من الأطماع, فتتجاوز بالتوسع مجالاتها الحيوية إلى خارج قاراتها, وما وراء البحار, وتضرب بعرض الحائط المبادئ التي تبنتها, أو بالأحرى التي لا تطبقها إلا على مواطنيها ولكنها على مواطني البلاد التي تستولي عليها تستبد وتترفع وتكرس تحلفهم وتغيب وعيهم ووصل بغي إحداها بأن باعت وطنا لا تملكه وشردت أصحابه, وقد جعلت هذه الدول بلاد العالم الثالث ساحات لمعاركها فدمرت, وجوعت وفرقت سعيا لزيادة مكاسبها باحتلال الأراضي, وإرهاب الشعوب بالقمع والتنكيل.
واليوم العالم بأجمعه أمام ثقافة تحدياتها عاصفة وهيمنتها طاغية إلى حد أنها ضيقت كوكب الأرض بالكوكبية بالثورة المعرفية وتدفق المعلومات, وما بلغته الاتصالات من تطور لم يكن يخطر ببال حتى إلى ما قبل عقدين, أو ثلاثة على الأكثر, حيث تغيرت النظرة للأمور, وماهية الثقافات ونوع القوة, وآليات السيطرة, فانعكس هذا على التفكير والمفاهيم, والتعامل والسلوك, والعلاقات, ولكنها برغم تضييقها المسافات بالتقنية ووسائل النقل والاتصالات والأقمار الصناعية والفضائيات حتى بات العالم عبارة عن صالون كبير فإنها شاسعة جدا, ودائما تأخذ بالاتساع أكثر فأكثر بالخلافات والصراعات, والحروب والإحتلالات, والإرهاب والايديولوجيا, وسكان الأرض متباعدون في المشاعر, والأفكار والأهداف والمستويات المعيشية, والعميلة والفكرية, والأنساق الاجتماعية والإمكانات والقدرات ومعاناة البلدان المتخلفة من التسلط والفوضى والجهل والفقر والمتقدمة من الاختناقات والإضرابات والتلوث والضوضاء والتعقيد والزحام والأزمات, وتزايد الجريمة المنظمة.
إن التصدي للعولمية وإن لم تزل مهيمنة ففي أوروبا وآسيا وأمريكا الجنوبية إن بتكتل عدة دول تجمعها الجغرافيا, أو بتصاعد قوى تمكنت من استثمار طاقاتها البشرية الهائلة وتنوعها البيئي وتنمية صناعاتها ومنتجاتها وتطوير اقتصادها وتحديث ثقافتها تحديثا لم يخل ببعدها المعمق لاستقلاليتها فبرهنت باقتدارها على احتواء الأزمات, والاستجابة للتحديات على تمتعها بفكر مستنير وعقل علمي ناهض ونظرة واقعية لم تلغ التطلع للأفضل حيث حضرت حضورا مؤثرا على ساحة المنافسة ربما سيشهد المستقبل, إن لم تتقدم على ثقافة العولمة فعلى الأقل: تستنادها.
والسؤال الملح: أين العرب من هذه التحديات؟
لقد قسم (( أرنولد توينبي)) بنظريته المعرفة ((التحدي والاستجابة)) التحديات إلى ثلاثة أقسام لكل قسم استجابة خاصة هي:
- التحدي الصعب: لا تستجيب له حسب التصنيف الحديث للدول إلا المتقدمة منها: سياسيا, واقتصاديا, وثقافيا, وعسكريا.
- التحدي الوسط: تستجيب له: الدول النامية, والدول التي في طور النمو.
- التحدي البسيط: تستجيب له الدول التي ما زالت تحت النمو, والمتخلفة.
عليه نخلص إلى أن وقوع بعض الدول العربية بخانة التحدي الوسط لا ينفي عن العرب عجزهم حتى الآن: ضعف وتخاذل وسلب إرادات وتراكم السلبيات على علاقاتهم واستشراء التطرف فيهم فتضادوا سياسات وتباينوا اقتصاديا, وجمدوا ثقافيا, فانعدمت إنتاجية أكثرهم واعتمدوا على الاستيراد, فصاروا مستهلكين ومقادين حضاريا بفعل الخلافات والتعصب وعدم القدرة على فرز ما يؤخذ وإهمال المحفزات كالأجواء المناسبة وتبني المبدعين والوعي بقيمة الاختصاص ودعم العلماء والمخترعين والبحث والتجريب والتحرر من المرجعيات الأبوية وتجاهل معظمهم للزمن بحيث لا يحسبون حساب ما يحمله من متغيرات وتقديمهم في طروحاتهم الفكرية مصالحهم الشخصية وانتماءاتهم الأيديولوجية على كل ما هو وطني وقومي.
ومما يزيد الطين بله: أنهم بين رافضين التفعيل بالمزج والمزاوجة والإحياء والتأثر ومنهم منغلقون رفعوا التراث دون تمييز كله بغثة وثمينة إلى درجة القداسة ومنبهرين بالآخر يكادون يذوبون فيه فتهمش العقل العربي بالإقصاء والأوضاع الطاردة والهجرة والتقوقع ولم يعوا بأن الثقافة أهم عامل في نشوء النهضات وبعث النمو ومن ركائز القيم والسبل المؤدية نحو ناموس الارتقاء فأصبحت بمؤخرة اهتمامهم فأدى ذلك إلى بؤس التعليم بنظمه ومناهجه وبرامجه ومقرراته والمتولين مسؤوليته فغاب الوعي بماهية الثقافة بأنها لا تقتصر على الأجناس الأدبية ونقدها والدراسات الاجتماعية والفنون بجميع أنواعها التي أيضا لم يبلغوا بها المستوى الإنساني حتى يحتفى بها ويستجاب لها رغم ثراء الثقافة العربية وقدرات لغتها ومكامن الجمال فيها.
الثقافة برغم قيمة هذه الجوانب الإنسانية فيها تشمل كذلك على إنتاج السلع وتصنيعها وكيفية تسويقها والأبحاث المعملية والفكر السياسي والاقتصادي ومختلف المهارات والمهن والتجارة والصناعة والسلوك والمعاملة وتأطير كل المناشط في صيغ تحفظها وتنميها وتقوى مفاعيل التخصصات وتثبتها في العقول تماما على عكس ما هو حاصل في الأقطار العربية المعتمد الفعل الثقافي على الشهادات العالية التي تزايد الحاصلون عليها للمفاخرة بها, أو لتكون وسيلة للحصول على عمل ومن يجده لا يستفاد منه إلا من يتعبون على أنفسهم ونسبتهم ليست عالية وأكثريتهم مكانهم: طابور العاطلين.
هذه الأوضاع غير المناسبة التي يعيشها العرب استدعت بتجاهل واضح وقصد مكشوف لمحاسن العرب الإساءة لهم: العنصرية البغيضة والشعوبية الحاقدة والإستشراق المغرض, وبعض العرب المغسولة أدمغتهم, أو من الذين بالغوا بنقد الذات فجلدوها حيث وصفوا العرب بسرعة الغضب وقلة الصبر والأنانية والفردية وزعموا بأنهم ينشغلون بالنساء والملذات أكثر من الإنتاج والعمل والتنمية ويقدمون مصالحهم الخاصة على المصلحة العامة ويذلون للقوي ويتسلطون على الضعيف وذهنيتهم محددة بالمرئي والمحسوس وطموحهم محصور بالراهن, وخلفيتهم الثقافية شبه معدومة لعجزهم عن قراءة المستقبل وحضارتهم مع اقتصارها على النقل والإحياء بحيث لم تضف جديدا كانت بجهود المسلمين وغيرهم من الأمم والشعوب الواقعة تحت الحكم العربي ولم يكن للعرب أي دور فيها لأنهم اكتفوا بالسلطة وتمييز أنفسهم بالسيادة والأنساب والتجبر والتكبر.
إن العرب كسائر البشر لا يبلغون الكمال وليسوا معصومين, والقول بأنهم لا يخطئون إدعاء ومن الشوفينة والتعصب المذمومين تزكيتهم بخلوهم من العيوب ومع إقرارنا بصوابية بعض ما ووصفوا به فالمؤكد: أن اتهامهم بالقصور الذهني والغريزية والسطحية والتجبر والتعالي والانصياع للأقوياء ووصف ثقافتهم بالبدائية تحامل وافتراء دوافعها أحقاد عنصرية وثارات تاريخية وإسقاط ما فيهم على العرب مستغلين حالهم اليوم الناتج عن تفرق كلمتهم وتضار مواقفهم وتباين أهدافهم إن بتعمدهم تجاهل حقيقتهم أو جهلهم بها.
العرب طوال تاريخهم حتى بأحلك الظروف وأشد الأزمات وفي خضم الصراعات والخلافات ثبت استعصاؤهم على التهميش وقد مروا في أوقات أكثر قسوة مما هم عليه الآن لأنهم لم يعدموا النهوض والتجدد وتحويل الانكسارات إلى انتصارات وبددوا الجمود بالحركة وأبدلوا الضعف بالقوة بحطين وعين جالوت والزلاقة, وحرب أكتوبر وسلاح البترول وتغلبوا على التحديات بالمتح الواعي من تراثهم والتأثر المستلهم من الآخر:
العرب وإن لا يمكننا الإدعاء بأنهم خير الأمم فإنهم الأمم الحية النابهة بقدرتها على المقاومة واجتماع مكوناتها البشرية على لسان عربي حفظه القرآن وثقافة ثرية وبحميمة القربى وحقيقة المفهوم العروبي رافض بقوة للعرقية باعتبار العروبة حضارة وثقافة منفتحة ترحب بالاختلاف وتعترف بالتنوع وتقتدي بفعل وقول الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم وما أصابها ليس من حقيقتها وإنما إفراز طبيعي لحالة مرضية يمر بها العرب, وبحسب ما أثبتوه عبر الحقب التاريخية سيتخلصون منها ويبدو أن ذلك سوف لا يطول كثيرا.
والعرب بطبيعتهم وتكونهم إن لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه بعد الإسلام دلتا على وعلى وعقول ناهضة وجهود حيوية حيث صنعوا منذ أقدم العصور: حضارات سبأ ومعين وقتبان وحمير وتفوقوا بالشعر والخطابة والبلاغة والفصاحة واشتهروا بالسليقة والبداهة والدهاء والذكاء وسرعة التكيف وقوة الشكيمة ومقاومة الصعاب وامتازوا بالفراسة والفروسية والسحاء والشجاعة والنجدة والشهامة والتضحية وكان فيه الحكماء والأطباء ونظموا التجارة واتصلوا بغيرهم وأقاموا العلاقات وكانوا السباقين إلى اعتناق الإسلام ونشره وتعليم القرآن وتفسيره وبيان أحكامه والتوعية بمعاينة, وعمموا لغتهم التي برع فيها غيرهم وبينهم من أصبحوا مراجع فيها حرصا من المسلمين على فهم القرآن والتعمق بالشريعة وانجذابا لبيانها وقد تأكدت قدرتها الفائقة على التوصيل والتنوير والتعريف فأسثبعت العقول وأطربت النفوس, فتعلق بها العرب والعجم, فسادت بواسطتها إحدى أبرز الحضارات الإنسانية الكبرى عبر التايخ.
الثقافة العربية: اهتدت بالقرآن وتأسست على الإيمان والقيم الإنسانية وامتازت بالسماحة ورعاية الإنسان وتنمية المواهب والمهارات وأبدعت وجددت وأحيت وأضافت وآثرت وتأثرت وتفوقت ولم تغتر وقد اعتبرت, وهذه حالها: من أهم مداخل وصول العالم إلى ما وصل إليه في العصور الحديثة وروافد التكامل الحضاري والعطاء العلمي والفكري ولم تكن هيمنتها جبرية: تفرض نفسها بالعنف والإلغاء والتسفيه والتوحش والعربدة وتختصر كل شيء فيها فتؤزم النفوس بمصادره حتى الأذواق وتولد الكره باختراق الخصوصيات وإخضاع القيم لهواها وإن تركت قليلا من التأثيرات الإيجابية فإذا لم تصب بالخصوصية ستستمر التبعية لها بينما الثقافة العربية حين كانت بعزها: طوعية بلحمتها وسداها تأثيرية رحبة غير احتكارية فبعدت في تطلعاتها عن الاستخدامات اللاإنسانية والتعامل التحقيري والفوقي.
وقد غاب, أو غيب بأن الفتوحات العربية كانت بأمر إلهي لرفع الظلم, وتبديد الظلام والقضاء على الانحلال والفساد وعبادة الأباطرة والنيران وتقديس الأشخاص والحجر والشجر ولإنهاء تسلط الجبابرة والمشعوذين والحروب والفتن وقد تلمس بها الضعفاء والمساكين: العزاء وشعروا بالإسلام بإنسانيتهم, واعتزوا به فأقبلوا على اعتناقه ولم تكن بغرض الاحتلال والاستعمار ولعل من أقوى الأدلة لدحض مزاعم الذين حاولوا إلصاق صفة الاستعمار بهذه الفتوحات: أن غالبية المسلمين بالعالم اليوم لم يعرفوا العرب إلا كتجار لا كفاتحين وحكام, حيث أدى تعامل هؤلاء التجار ومسامحهم, وأمانتهم وصدقهم وتواضعهم وبشاشتهم وعفتهم ووفاؤهم ورحابة صدورهم واستقامة مسلكهم ومنطقهم وموضوعيتهم وأسلوبهم الدعوي ألترغيبي والمتدرج الهادئ وقبول الاختلاف والترحيب والحوار وبيان ما يعكسه الإسلام على حياة المسلم دعتهم للاقتناع الذي سما بالإيمان فارتاحت نفوسهم وطابت خواطرهم فاستنارت به عقولهم واجتمع شملهم.
نسبة لافتة لعدد من الباحثين بعضهم مشهود لهم بالتمكن والاقتدار لا يرون في استحضار التاريخ فائدة باعتباره منقضيا ليس بمقدوره إلغاء الراهن, ويبدو أنه رأى بالإمكان الأخذ به حين نطيل الوقوف عنده والاعتماد عليه بحيث يحمله الحاضر بالترديد والتهليل دون الفعل للماضونية فيجمد الواقع بالمباهاة ولكنه أيضا من ناحية أخرى لابد من استدعائه إذا استطعنا: تحريكه بالكائن حتى تتكون بذلك رؤية قد يجري إنياضها بما سيكون إضافة إلى كونه في بعض الأحيان ضروري: للتوعية والربط والمقاربة والمقارنة, ويرشد لمنشأ, أو بدايات الأدواء, وهو بمجمله: عملية تراكمية لا يمكن تجاهلها حتى لا ينقطع التواصل الإنساني والمد المعرفي والمستعاد كل من التاريخ في شتى أشكاله أي أنه حاجة للنفس التائقة للطفولة والشباب, وما خلا من السنين والأيام.
وتمشيا مع ذلك نجد أن الضعف العربي ابتدأ بغلو العصبية بين القبائل العربية التي كرسها الأمويون بتفضيل العرب الذين بدورهم انقسموا إلى قيسية ويمانية التي اشتدت العصبية بينهما أكثر عقب معركة (مرج راهح) التي انتصر فيها (مروان بن الحكم) بمعاونة اليمانين فكانت نتيجتها: فوزه بالخلافة فتجسدت بالأندلس في معارك وصراعات وفوضى لو لم ينهها (الداخل) لما دام الحكم العربي في إسبانيا ثمانية قرون وقد تصاعد هذا الضعف باشتداد شوكة الشعوبية وإن بدا أن المنصور بالقضاء على أبي مسلم قد كسرها, وظل الخلفاء الستة أو السبعة الذين جاءوا بعده مهما بين أقوياء فقد اشتدت ثانية بصورة عاطفية من خلال أمهات الولد بفتنة الأمين والمأمون وجلافة جند المعتصم من أخواله الأتراك, ومحاولة (الأفشين) بإنهاء الخلافة العباسية الذي ولاه المعتصم قيادة جيوشه والمشاحنات بين زوجات الخلفاء من أجل ولاية العهد التي غالبا يحصل عليها ابن الزوجة الأقرب لقلب الخليفة دون النظر لحداثة السن والتجربة والكفاءة وغالبيتهن غير عربيات وفيهن من بنات وحفيدات ملوك وحكام البلاد المفتوحة ومنهن من يكدن للعرب ويعملن لصالح أقوامهن ويربين أولادهن على محبتهم.
ومن الأسباب التي أسهمت في إضعاف العرب إفراطهم بالتسامح والثقة مما مهد سبل توغل كثير من الحاقدين على العرب في مفاصل الدولة العباسية إلى أن أمسكوا بالسلطة الفعلية وتحويل معظم الخلفاء إلى دمى فتفككت الدولة إلى دويلات هزيلة منشغلة بالحروب والملاهي فتزايد الضعف إلى أن سقطت الخلافة العباسية وغربت شمس الحضارة العربية الإسلامية حيث تفرق المسلمون وشاع الاستبداد وتنفذ الدجالون ودعاة الفكر الخرافي ورؤساء العصابات وغاب الأمن واعتلت الثقافة العربية بالجمود واختلت بالاجترار فبهت الإبداع واضطهدت المعاني بالألفاظ المثقلة بالأسجاع والزخارف والجناس ولكنها على الرغم من قلقها الآن وعدم خدمتها بما يكفي والتربص بها والإمعان بمحاربتها خشية نهوضها الذي قد يستعيد به الإنسان العربي وعيه ويطالب بحقوقه من موقع القوة لا الاستجداء.
ويبدو من المناسب التأكيد على أن الثقافة العربية رغم ما أصابها وما عاناه وما يعانيه العرب من ضعف وشتات وتعارض أهداف والتعصب والتغريب, ونقص الوعي والأهواء والتجاذبات هي التي شحنت العرب بالهبات وجعلتهم يقاومون التهميش وأحضرتهم بحجبها تخييم التخلف عليهم وألا تبلغ خصوماتهم مستوى العداوات وعند الشدائد تجمعهم وهذا لا يعني بأنها اليوم ولا حتى من مئات السنين من الثقافات الفاعلة وإلا لبلغ العرب مبلغ الأمم المتقدمة بعد انطفاء وهجها في أعقاب إسقاط الخلافة العباسية ببغداد.
اللافت بأن الثقافة الحالية هيمنتها فاقت كثيرا جدا سابقاتها من حيث الشكل والمضمون وتعدد الأهداف والأساليب والإمكانيات والقدرات العلمية والتقنية والتخطيطية والعسكرية وبتوغلها وتأثيراتها ونوعية إستراتيجيتها التي انطبعت بالشمولية وصيغت بقالب تزييني وبدت متدرجة غير مرهقة تتنوع وتتجدد بين حين وآخر بحيث غطت شتى الخيارات وتعدت أضعاف المعارف وإرباك المشروعات ومحاصرة الموروث إلى إفساد الأذواق والسلوك والتعامل, وتعيين نوع العلاقة بالأسرة والأصدقاء واختراقها بجاذبية الخصوصيات وتسفه بصورة غير مباشرة ما عداها في الأزياء والهوايات والمأكولات والمشروبات لتصل إلى غايتها وهي: نزع المشاعر الوطنية وإلغاء الهوية والانتماء واستبدالها بالاستسلام الاختياري الذي به يتحقق إحكام السيطرة التامة.
وهكذا نجد أن العالم الآن حيال إشكالية بمنتهى الخطورة والتعقيد تستدعي أكثر من سؤال:
- هل في الإمكان مواجهة هذا التحدي؟
- وبحال إمكانية ذلك: ما الذي يجب اتخاذه لمواجهته؟
- ما هي الآليات الأنجع لمواجهته؟
الإجابة الشافية على هذه الأسئلة لا تتيسر على ما يبدو إلا بالرؤية المقاربة والتبصر بالتجارب السابقة والدراسات الدقيقة والمراجعات الفارزة ونوعية الخطط المعدة والتنفيذ السليم والجدية والهمة وخلوص النية والخلفية الثقافية والإصرار على الهوية وأخرى لعلها مساعدة أو الأقل أهمية مثل القدرة الاقتصادية والتجانس أثنيا ودينيا والموقع الجغرافي على أن يكون ذلك بظل سيادة الاستقرار واستتباب الأمن والمناخات المشجعة واستمرار المتابعة والمراقبة الجادة ومحاسبة المسيء والمقصر ومكافأة المجد والمحسن.
هذه المنطلقات التغيرية الأساسية والعملية المتكاملة لكل طموح وقد تزيد وتنقص ولكن الأهم والأجدى فيه: إعداد الإنسان لمواجهة التحديات وتوعيته بقيمة الهوية والانتماء والخصوصية والثقافية الوطنية وضرورة انفتاحه وتسامحه وبأنه جزء من العالم الذي يجب أن يوثق صلته به بالتعاون, وتبادل المنافع, والتأثر الذي لا يخضعه, وإحضار ذاته بالتأثير فيه والأمثلة بالتاريخ كثيرة ولعل أقربها: اليابان وماليزيا فبرغم محدودية مواردهما الطبيعية وآثار الحرب العالمية الثانية, وما تركته القنبلتان الذريتان على الأولى من دمار وآلاف الضحايا والإعاقات والأمراض النفسية والأزمات تجاوزتا النهوض ببلوغهما التطور وبخاصة اليابان التي فاقت صناعتها كما وكيفا وانتشارا صناعات كثير من الدول العربية المتقدمة.
إن معظم العرب يتمنون: وحدة اندماجية ولكنها برغم كونها أمنية غالبا ستظل على ما يبدو حلما جميلا بالوعي العربي لا أكثر – على الأقل- لعدة أجيال لأسباب: سياسية واقتصادية وخلافات ظاهرة وخفية واستقطابات إقليمية ودولية توزع بينها العرب وهي حالة مهما طال الزمن ستنتهي سيما أنه لحسن الحظ أن العرب موحدون بلغتهم وثقافتهم وقيمهم الاجتماعية ومشاعرهم, وتطلعاتهم وآمالهم وآلامهم, وتجاه القضايا المصيرية في الأساسيات وعند الأزمات الشديدة وهذه عوامل كافية لتكامل الأقطار العربية إذا وعى كل قطر عربي ما يرفع من شأنه ويتكامل مع أشقاءه ويتفاعل مع العالم.
وما نراه بهذا الموضوع: أن يعتني كل قطر بالإنسان عقلا وبدنا ويرتقي بالتعليم نظاما ومقررات وتربية وتدريسا وربطا بين البيت والمدرسة ومناخا مشجعا على الإقبال عليه كالمباني المناسبة وتحديد أعداد الطلاب في الصفوف وإشباع هواياتهم وتنمية مواهبهم ومهاراتهم ويخدم الثقافة بكثافة واستثمار العقول من أبنائه المقيمة والمهاجرة والاستعانة بالخبرات النوعية والاستفادة من التجارب السابقة وتوفير أفضل المناخات وأجزل الحوافز للحث على العمل والإنتاج والبحث والتجريب ولدعم المبدعين والمخترعين والعلماء والمفكرين وتوسيع دوائر الفرص وإصلاح الأجهزة بالتطهير والتطور وحفظ الحقوق وضمان التنوع الثقافي إن وجد وحماية الحريات واستمرار المراقبة والمتابعة ضمن فعل مؤسسي محكوم بدستور وقوانين تتناسب وأوضاع وظرف وقدرات كل قطر وتتعين بموجبها: نوعية النظام والمشاركة الشعبية والمجتمعات المدنية والمسؤوليات والواجبات والاستحقاقات والصلاحيات ودواعي الثواب والعقاب وتحول بإنفاذ الأحكام وعدم التمييز وإقرار الأمن دون التفكك والفوضى وتفشي الجرائم.
لا يبدو أن أحدا ينكر: تقصير العرب بحق أنفسهم وضعفهم ولكنهم مع ذلك حتى الآن لم يمكنوا الخمول منهم لأن ما يعانون منه من ضعف ليس أصيلا بفكرهم وطبيعتهم ولكنه إن طال أكثر واستسلموا لواقعهم قد يستوطن بينهم التخلف إذا لم يعوا مصادر أدوائهم بخدمة ثقافتهم وإعلاء شأن لغتهم وتحويل خلافاتهم إلى توافق وتفرقهم لتضامن يوحد كلمتهم ويحافظ على تماسكهم ولا يحبس الحركة ويتسع بالمرونة ويجمعهم على الأساسيات والقضايا المصيرية في اطر تكاملية تحقق التعاون والعمل المشترك وإدامة التنسيق إن بتفعيل دور جامعة الدول العربية, أو بصيغة بديلة لا تتعارض وقيام تكتل وصيغ أخرى بين أقطار أكثر تقاربا بالتاريخ والجغرافيا والعلاقات الاجتماعية.
ما يعاني منع العرب بالاستطاعة رفعه بإبعاد الخوف والتردد والقضاء على التطرف والتناقض بتفعيل الحوارات واحتواء الاختلافات بالقبول ما لم تتطور إلى خلافات حادة قد تقضي على كل منجز وتنسف التلاحم والتضامن وأنهم لقادرون لما هم مفطورون عليه من نباهه وما أغناهم به ميراثهم الثقافي والحضاري الذي من المفروض أن يتكيفوا معه فيقاومون التهميش ويتصدون للتحديات ويملكون القوة الاقتصادية والبشرية التي تؤهلهم بالتحرك بجميع الأبعاد بحيث لا تبقى عليهم سوى الوعي بالمفيد والمضر وتنشيط حياتهم بهجر الارتخاء والتغلب على الإحباطات وتكوين المؤسسات القادرة على توزيع الأدوار واستمرارية النمو وتنظيم العلاقات وتوثيق مختلف المناشط, وإشاعة التنوير.